"لنستمر في الهجوم، لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة، لا صوت يعلو فوق صوت منظمة التحرير الفلسطينيّة".. بهذه الكلمات أشعل الشهيد القائد خليل الوزير "أبو جهاد" نائب القائد الأعلى لقوات الثورة الفلسطينية لهيب الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والمعروفة باسم "انتفاضة الحجارة"، والتي أشعلت الأرض نارا تحت أقدام المحتل في كل شبر وحارة وشارع على أرض فلسطين.
شكلت الانتفاضة التي اندلعت في الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام 1987، نقطة فاصلة في تاريخ الصراع مع الاحتلال، وأصبح مصطلح الانتفاضة معروفا دوليا مما يعني تظاهر آلاف الفلسطينيين ضد الاحتلال الذي يجثم على أراضيهم، عندما قرر الفلسطينيون أن يقولوا للمحتل "كفى".
وسطر أطفال فلسطين بحجارتهم أروع ملاحم البطولة والتحدي، ما دفع الشاعر السوري نزار قباني لكتابة كلماته الشهيرة، "بهروا الدنيا وما في يدهم إلا الحجارة، وأضاؤوا كالقناديل، وجاؤوا كالبشارة، قاوموا.. وانفجروا.. واستشهدوا".
شرارة الانتفاضة
جاءت الشرارة الأولى للانتفاضة حين استشهد أربعة عمال فلسطينيين من مخيم جباليا للاجئين شمالي قطاع غزة، جراء دهسهم من قبل مستوطن على حاجز بيت حانون، أثناء عودتهم من عملهم.
اعتبر الفلسطينيون حادثة دهس العمال "قتلًا متعمدًا"، واندلعت احتجاجات عنيفة خلال تشييع جثامين الشهداء الأربعة، إذ ألقى المواطنون الحجارة على موقع لجيش الاحتلال في مخيم جباليا، ورد الجنود بإطلاق النار، ما أدى لإصابة العشرات من الفلسطينيين وارتقاء عدد من الشهداء.
وعلى الرغم من الاستنفار الإسرائيلي بعد اتساع رقعة المواجهات، إلا أن القيادات العسكرية حاولت التقليل من أهميتها وتوقعت انحسارها خلال فترة قصيرة، لكن ذلك لم يحصل، حيث كُسر حاجز الخوف في التعامل مع الجنود، وصعد عدد من الشبان بشكل غير مسبوق على جيبات عسكرية، وجاب الطلبة شوارع غزة للتحريض على التظاهر وإعلان الإضراب العام.
"القطاع الغربي".. كلمة السر
نُظمت الانتفاضة بواسطة القيادة الوطنية الموحدة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكان لأبو جهاد دورًا هامًا في قيادتها حيث قدم لها الدعم والإسناد بالإضافة إلى تنسيق فعالياتها، أوعز "أبو جهاد" لمقاتلي حركة فتح في الأراضي الفلسطينية، بإشعال لهيب الانتفاضة، وهنا برز جهاز "القطاع الغربي" والذي كان كلمة السر في تأجيج الانتفاضة.
و"القطاع الغربي" هو الجهاز الذي كان يدير العمليات في الأراضي المحتلة عامي 1948 و 1967، كان قد أسّسه خليل الوزير لإدارة شؤون الداخل، كما كان معروفاً باستقلاليته الإدارية والتنظيمية.
تولى أبو جهاد قيادة القطاع الغربي خلال الفترة 1976 – 1982 وأشرف على عمليات حركة فتح في الأراضي المحتلة.
وفي الفترة من مارس/آذار 1985 حتى أبريل/نيسان 1986 – أي في التي سبقت الانتفاضة - تولى شيخ المناضلين أبو علي شاهين قيادة مفوضية القطاع الغربي، قبل أن تقضي ما تسمى (المحكمة العليا الإسرائيلية) بطرده من البلاد لخطورتهِ الأمنية، فتم ابعاده إلى جنوب لبنان منتصف العام 1985 ومن ثم وصل للأردن، ليستقر في العراق.
في أكتوبر عام 1986 وبعد إُبعاد أبو علي شاهين عن أرض الوطن، تولى محمد دحلان أحد المؤسيين الأوائل لحركة الشبيبة الفتحاوية الذراع الطلابية لحركة فتح، قيادة القطاع الغربي.
دحلان كان قد افرج عنه لتوه من سجون الاحتلال، بعدما اعتقلته قوات الاحتلال عام 1981 بتهمة قيادة حركة الشبيبة الفتحاوية، ليقضي خمس سنوات خلف القضبان، قبل أن يخرج ويتولى قيادة العمليات في الأراضي المحتلة.
وعند اندلاع الانتفاضة، ساهم دحلان في قيادة فعالياتها، من خلال نقل التعليمات من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج إلى القيادات في الداخل، إلى أن تم إبعاده إلى الأردن من ثم إلى ليبيا، ثم ما لبث بعدها أن انتقل إلى جانب القيادة الفلسطينية في تونس.
امتداد الانتفاضة
اتسعت الاحتجاجات وعمت جميع أنحاء قطاع غزة، قبل أن تصل للضفة الغربية والداخل المحتل، واستمرت بزخم مختلف طوال ست سنوات بمشاركة أكثر من نصف مليون فلسطيني.
وصاحبت الانتفاضة حركة عصيان مدني ومظاهرات متواصلة،
رفض غالبية الفلسطينيين التوجه لأعمالهم خلال الأيام الأولى للانتفاضة، وأغلقت المحال التجارية وتعرضت الحياة العامة للشلل، وهو الأمر الذي استفز الاحتلال مرارا ودفع جنوده لخلع أقفال المتاجر، وإجبار أصحابها على العمل.
كما عرفت الانتفاضة ظاهرة جديدة أطلق عليها "حرب السكاكين"، إذ كان الفلسطينيون يهاجمون الجنود والمستوطنين الإسرائيليين بالسكاكين ويطعنونهم.
تكسير العظام
اتخذت حكومة الاحتلال، قرارات قاسية لقمع الانتفاضة وإنهاء حالة الغضب التي تسود الأراضي الفلسطينية.
وجندت سلطات الاحتلال أكثر من ثمانين ألف جندي لإخماد الانتفاضة، واستخدمت أسلوب "تكسير العظام" كوسيلة لقمع الانتفاضة، التي شجعها إسحاق رابين حين كان وزيرا للدفاع آنذاك.
وصلت الانتفاضة إلى أعلى مستوى لها في شهر فبراير/شباط 1988 عندما نشر مصور إسرائيلي صور جنود يكسرون أذرع فلسطينيين عزل باستخدام الحجارة في مدينة نابلس، بالضفة الغربية المحتلة.
فشلت إسرائيل في كبح جماح الفلسطينيين، الذين لم يعودوا يحتملون احتلالا يأكل أرضهم، ويقذف بأبنائهم في السجون، ويهدم منازلهم، ويقضي على حلمهم بالاستقلال والحرية، فقامت بحظر جميع رموز الحركة الوطنية الفلسطينية، كما حُظر العلم الفلسطيني، وحتى كلمة فلسطين، ومن يتظاهر حاملا العلم، أو يعلق العلم في منزله يتعرض للسجن بتهمة تحدي السلطات.
نهاية الانتفاضة
تؤرخ نهاية الانتفاضة الأولى بعام 1993 حين وقّعت في البيت الأبيض اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الاحتلال، والتي بدأت معها المفاوضات العلنية المباشرة من أجل حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وتقدر حصيلة الضحايا الفلسطينيين الذين استشهدوا على أيدي قوات الاحتلال أثناء انتفاضة الحجارة بنحو 1162 شهيداً، بينهم نحو 241 طفلاً ونحو 90 ألف جريح، فضلاً عن تدمير ونسف 1228 منزلاً.