ما زالت اللحظتان الفلسطينية والإسرائيلية في طور التكوين، ولكلتيهما تداعيات لا تقتصر على الطرفين المعنيين، بل تُسمع أصداؤها في الإقليم، والعالم.
ولا يحول عدم اكتمال اللحظتين دون الخروج بخلاصات عامة بشأن ما للحظتين حاسمتين كهاتين من دلالات بعيدة المدى، لا يبدو من قبيل المجازفة وصفها بالتاريخية.
بيد أن ما حدث قبل أيام، أعني الإعلان عن مصالحة إيرانية ـ سعودية برعاية ووساطة صينيتين، يستدعي التوقف، في معالجة اليوم، عند حدث كهذا، ليس لما له من تداعيات وثيقة الصلة بالفلسطينيين والإسرائيليين وحسب، ولكن لأن فيه ما يحرّض على إعادة الاعتبار إلى قراءة الواقع بطريقة صحيحة، أيضاً.
وفي سياق كهذا، نعثر على مفتاح أوّل يُسهم في فتح أقفال كثيرة، إذا بدأنا برعاية الصين، ووساطتها، للمصالحة. فهذه علامة تدل على أمرين: تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة، وتقدّم النفوذ الصيني لملء فراغ القوّة، فالعلاقات الدولية، كما الطبيعة، لا تعترف بالفراغ.
هذا لا يعني أننا لن نرى أميركيين في الإقليم بعد اليوم، ولا يعني أن بكين صارت "مربط خيلنا"، بل يعني أن عملية تآكل النفوذ الأميركي في الإقليم، صارت أكثر وضوحاً.
وقد كان برنارد لويس (والحق يُقال) أوّل من شخّص هذا التآكل، قبل ما يزيد على عقدين من الزمن، بل وتوقّع أن يصير للصينية (والهندية) ما كان للإنكليزية من مكان ومكانة في الإقليم على مدار قرنين. فالمستقبل في الهيمنة على المنطقة، كما يقول، لقوتين صاعدتين هما الصين والهند.
فسّر لويس، أيضاً، ما يسم المنطقة (العالم العربي على نحو خاص) من فوضى وقلق واضطراب، بفرضية اعتماد دولها وشعوبها وقبائلها، بالاختيار أو الاضطرار، على قوّة خارجية تحميها، وتضبط صراعاتها، على مدار قرنين. وقد صار عليها، الآن (بعد تآكل القوّة الأميركية، وانسحابها التدريجي من المنطقة) أن تتدبّر أمرها بنفسها، وأن تبحث عن قوّة خارجية تحتمي بها، وتضبط صراعاتها.
لا أريد نقاش الاستشراقي، والأبوي، في نظرة لويس، ولا حقيقة أن ما لحق بالمنطقة من كوارث وثيق الصلة بسياسات، وحماقات، ومطامع إمبراطوريات غربية تحكّمت بالمنطقة على مدار قرنين (وما زالت بدرجات متفاوتة) بقدر ما أود الإشارة إلى أحداث وثيقة الصلة بكلامه إلى حد تبدو معه وكأنها علامات نبوءة حققت نفسها، وبطريقة مأساوية تماماً. ومع ذلك، لا أحد يتكلّم عمّا بينها من قواسم مشتركة.
المقصود أن كل ما شهدته المنطقة من كوارث، على مدار عقد مضى، نجم في جانب كبير منه عن مجازفة قوى كانت دائماً هامشية، بتحريض من الحماة التقليديين (إضافة إلى تركيا وإيران، وكلتاهما قوّة إقليمية فعلاً) لا بمحاولة تدبّر أمرها وحسب، بل وتدبّر أمر الحواضر العربية، أيضاً، مع كل ما في المجازفة من تنافس، وطموحات فاوستية، وصراعات دموية وعبثية في آن.
ويتجلى في هذا السياق، أكثر من غيره، معنى مطاردة وإجهاض ثورات الربيع العربي، والحروب الأهلية، والتدخلات الدموية في العراق، وسورية، واليمن، وليبيا، وحرب الإرهاب التي ضربت في مصر، وشمال أفريقيا، وحرب ما يدعى بالانقسام في فلسطين، وحرب الفساد والإفلاس التي ضربت لبنان. وبهذا المعنى، يراهن الإبراهيميون، فوق الطاولة وتحتها، على الإسرائيليين كحماة جدد.
ومع هذا كله في الذهن، نذهب إلى ريتشارد كلاك، الذي عمل مستشاراً في الخليج، بعد تقاعده من منصب رفيع في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (كان رئيساً لقسم مكافحة الإرهاب). نشر كلارك في العام 2005 رواية بعنوان "بوابة العقرب" كان موضوعها الرئيس نجاح الصينيين في بناء قواعد صواريخ سريّة لهم في السعودية، بعد وقوع انقلاب هناك. ولا أريد، هنا، الاستفاضة في الكلام عن الرواية بل الاستعانة بها للتذكير بأمرين:
أولاً، أن لجوء بعض رجال الأمن، وأحياناً كبار الساسة في الغرب (كلينتون نشر روايتين حتى الآن، ولم تتأخر هيلاري طبعاً فلحقت به برواية واحدة) إلى الرواية كفنّ من فنون القول يحررهم من تهمة إفشاء أسرار المهنة من ناحية، ومن ناحية ثانية، يمكنهّم من التعبير عن اهتمامات وهموم ومخاوف أو رهانات حقيقية، وجدية تماماً، في قوالب روائية يمكنهم التنصل منها بذريعة كونها خيالية، ولا تحاكي الواقع. وبهذا المعنى لا يشذ كلارك عن القاعدة، ويغرف من تجربته المهنية وخبراته في بناء عالمه الروائي.
ثانياً، وهذا هو الأهم في نظري: تحتل مسألة استقرار الحكم في السعودية من ناحية، ومحاذير وصول الروس، والصينيين (لاحقاً) إلى تلك البلاد، وقرب موارد الطاقة، رأس الأولويات في استراتيجية الأميركيين في هذا الجزء من العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبناء عليه، نفهم دلالة القواعد الصينية في رواية كلارك.
ينجح الأميركيون (في الرواية، وهي مشوّقة، ومليئة بالتفاصيل) في اكتشافها، وفي الحيلولة دون التوّرط في حرب مع إيران، وفي إحباط الانقلاب، ومحاولة "التسلل" الصينية في شبه الجزيرة العربية.
وبما أن العلاقات الأميركية – الصينية تشهد تصعيداً يسوّغ للبعض وضع خيار الحرب بين الطرفين على الطاولة، فهل في تسجيل الصينيين لنقطة في رصيدهم السياسي والدبلوماسي في الشرق الأوسط ما يستنفر ردّة فعل أميركية؟ وما حجمها؟ وما مدى اتصال أو انفصال مكسب الصينيين الجديد بالصراع على تايوان، وفي بحر الصين الجنوبي؟
وقبل هذا كله: ما هي المصالحة (أبعد من إعادة العلاقات الدبلوماسية) وما مدى انعكاسها على المشروع النووي الإيراني؟ وما ترجماتها المحتملة في مناطق صارت تقليدية للصراع بين طرفيها كسورية، والعراق، واليمن، ولبنان؟ هذه وغيرها أسئلة مفتوحة. وبقدر ما أرى، تظهر في الرواية، كما في الأفق، صراعات كثيرة.